
السبت 28 يوليوز 2018 - 08:00
تأخذ الكاميرا وقتها لإظهار عظمة المكان، وبالتزامن مع اكتشاف القصر الفخم تظهر تماثيل ولوحات ذات عراقة هائلة في الزمن... نحن في فرنسا العظيمة التي بناها النبلاء المحاربون الشجعان... لكن الأسرة العريقة تعاني من غياب وريث يحمل هذا العبء القروسطي ويحافظ عليه عصر العولمة واقتصاد السوق.
ثم يظهر أن قصر الكونتيسة (عبدل والكونتيسة لإيزابيل دو فال 2018) يقع في مدينة صغيرة وهو قريب من أحياء وسجن مزدحم بمهاجرين مغاربيين وأفارقة يتعاركون. المشهد مرعب. تظهر المفارقة بين تاريخ تلاشى وواقع يغلي في فرنسا اليوم.
لص له سحنة واسم مغاربيان "عبدو" يتعامل مع أرستقراطية بدم نقي شقراء الشعر بيضاء البشرة تمشي بنخوة، تتبرع للسجناء بنسخ من رواية ألكسندر دوما "الكونت مونت كريستو" ذات النهاية المتفائلة عن عصر مؤامرات نابليون. تنظر إلى عبدو من فوق كتفها كأنه حشرة، تحقنه بدواء فصيلة أخرى، لا تتصور أن الفقراء يملكون الشرف.
ماذا يقول السياق التاريخي عن هذه المقدمة؟
إنه سياق يذكّر المُشاهد بالقلق الفرنسي من المهاجرين المغاربيين المسلمين خاصة. يذكّر بإحراق سيارات في الضواحي - الغيتوهات الفرنسية. عبدو اسم يحيل على مسلم. اسم يثير رعب اليمين الأوروبي من أسلمة أوروبا، وقد كتب صامويل هنتنغتون ذات يوم "إن معدل الزيادة السكانية الإسلامية يهدد التوازن الاثني والديني في كل مكان يقع فيه" ("صدام الحضارات: إعادة صنع النظام العالمي" ترجمة طلعت الشايب، دار سطور القاهرة، الطبعة الثانية 1999، ص422).
وقد صرح فيليب دو فيليي، المرشح للانتخابات الرئاسية الفرنسية، بالقول إن "برنامجي هو منع أسلمة فرنسا".
في هذا السياق المشحون والمنذر بالصراعات، ينقلب الفيلم على مقدمته ليصور عالما طيبا جدا وعلاقة ودية بين أحفاد النبلاء والمهاجرين الملونين. بالرغم من أن ابنة الكونت تقتل طائرا بسبب لونه فقط.
أصل مشكل الكونتيسة
لقد زهد الوريث الشرعي الوحيد في الدنيا وتفرغ للعبادة. البنت لا يمكن أن ترث سر والدها. الأرستقراطية ذكورية بينما الحداثة أنثوية. لحل المشكل ظهر وريث مستعار من فصيلة دم الكونت؛ لكنه وريث سمسار لا أرستقراطي. ثم يأتي البديل من شمال إفريقيا. صدق نية المهاجر أهم من القرابة ومن نقاء الدم، هذا هو الجسر ليخترق المهاجر قلب الارستقراطية الفرنسية.
يسرد الفيلم بسذاجة تستثير الضحك علاقة شقراء نبيلة مع شاب بملامح شمال إفريقية. كوميديا ناجحة لأنها مست لب تصور الفرنسي لنفسه. يرى المتفرجون الخير جميلا حتى لو كانت الحكاية بلهاء.
يقدم الفيلم عدة عوالم متقابلة:
تقابل أرستقراطية هاجسها التقاليد المقدسة في مواجهة بورجوازية يحركها الربح، بغض النظر عن أية قيم.
وتقابل مكانين: قصر شامخ في حديقة غناء وعمارات مزدحمة لا شجرة فيها.
تقابل منظومتين قيميتين: صدام العراقة والإيتيكيت في مواجهة الوقاحة في طريقة الكلام واللباس والأكل وتناول الويسكي.
فيلم فقير سينمائيا؛ لكنه يمس على صعيد المضمون وترا حساسا لدى المتفرجين. فيلم له صدى وينطبق عليه قول الناقد السينمائي الفرنسي جان ميشيل فردون: "هناك اليوم سينما وصفية هي بالنسبة لي أقرب إلى التلفزيون، أو بالأحرى تقوم بالمهام التي كان ينبغي للتلفزيون أن يضطلع بها؛ لكنه لا يفعل. السينما تقوم، اليوم، بهذا الدور؛ لكن النتيجة سينما فقيرة وسطحية".
تتجلى السطحية في شخصية عبدو، في سيرة بطل مضاد ساذج فاشل؛ لكنه صادق طيب، ولا يفكر في قتل سيدته كما فعل عمر (في فيلم عمر قتلني 2010). هذه الطيبوبة يفتقدها المتفرج في بيئته ويجده في الفيلم.
فيلم يلاقي هوى الجمهور في ضفتي المتوسط، فبالنسبة لشاب جنوبي يمثل عبدو نموذجا للنجاح بالزواج من شقراء ثرية تضمن الحب والرفاهية. ويمثل بالنسبة للمتفرج الشمالي اختراقا وتهديدا للهوية الوطنية العريقة التي يشوهها الغرباء الدخلاء. هذا الهاجس الذي تخجل وسائل الإعلام التقدمية من تسميته.
ما يُستنتج من ذلك هو أن السوسيولوجيا هي روح الكوميديا التي تسخر من السلوكات الشعبية الراسخة والتي تطفو بين حين وآخر في وسائل الإعلام. حتى لو كانت المقاربة سطحية، فالكوميديا تُضحك الناس من تعقيدات وضعهم.
في الفيلم سخرية من تعقيد تقاليد بالية في عصر انتصار الحركة الانسية على الفيودالية وتوابعها، سخرية من أرستقراطية فاتها القطار ولا تهضم أن البرجوازية قد صنعت طفرة في طريقة تأويل العالم. وهو ما يتجلى في ثقافة الروك اندرول التي تؤطر نمط عيش الشبان وتستفز الذوق التقليدي.
يتأسس "عبدو والكونتيسة" على صراع طبقي، انتقل معجم العراقة إلى فم الخادمة، فتماهت مع أسيادها، فحجب ذلك واقعها عن عينيها. وقد اخترقت هذه النظرة المستلبة الفيلم بكامله، خاصة عندما تنزعج الأرستقراطية من العيد الفرنسي في 14 يوليوز.
بالنسبة لها هذه ليست ثورة؛ بل إهانة، إنه زمن يذكرها بسيطرة الرعاع على سجن الباستيل وقتل ملك فرنسا المبجل.
لم تتصالح الكونتيسة مع تاريخ بلدها، وفجأة تتصالح مع المهاجر المغاربي. وهكذا، يقدم الفيلم نهاية سعيدة ذات أهداف تجارية واضحة. يتسلم عبدو سيف الجد الأمير عبد القادر، وينتهي الفيلم بأغنية جزائرية شهيرة تؤكد أن المهاجر سيتعب وسيعود إلى بلده.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق